انشراح ,,قصة جميلة ,,
4 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
انشراح ,,قصة جميلة ,,
بقدر ما كانت تبدو انشراح فتاة عادية لكنها أحيانا تبدو جميلة وملفتة للانتباه بجسدها الضئيل ومفاتنها الصغيرة المتناسقة مع مقاييسه ووجهها البسيط المريح الصافى الذى لم تلوثه الكريمات ولا ندوب الشباب والابتسامة التى تلازمها والتى لم أرها تفارقها إلا نادراً.
وكنت مدرسا خاصا لأريج, ابنة سيدة ثرية أرستقراطية تقيم بالزمالك كانت في نهائي الثانوية العامة.. شقية عابثة لا مبالية وكانت تجهدني وتضنيني في تعليمها.. وكان الأجر كبيرا والحفاوة التي تستقبلني بها السيدة رغم تحفظها تخجلني.. كان لسان أريج معوجا بتأثير تعليمها الأجنبي لا تقبل ولا تتقبل ولا تعي دروس اللغة العربية ونصوصها الجاهلية, فما بالك بآيات القرآن الكريم التي أدرسها إياها ضمن النصوص المقررة.. وكثيرا ما كانت أريج تقاطعني وتخاطب أمها بالفرنسية ويتبادلان حوارا يبدو لي حادا ثم تطلب مني أمها بابتسامة تجاهد أن تبدو رقيقة أن أسمح لأريج بقضاء حاجة ما لبضع دقائق.. يختفيان فتدخل انشراح بشاي.. بقهوة.. كرواساه أو ساليزون ونتبادل بضع كلمات.. أسألها عما تفعله أريج بالداخل مع أمها.. فتبتسم ولا ترد.. أطلب منها الجلوس فترفض.. كانت تقترب من أوائل العشرينات وكنت أكبرها ببضع سنوات.. رغم إشراقها وبسمتها الدائمة كان هناك أسي عميق في حدقتيها.. واحترت في تفسيره..
كان يقابلني في الدخول والخروج مدرسون خارجون أو داخلون وكنت أكثرهم حضورا لهذه الفيللا بسبب لكنة أريج العربية المتردية.. شيئا فشيئا بدأت انشراح تعتاد علي وتتكلم معي خاصة في فترات انتظاري خروج مدرس ما أو بناء علي طلب أريج بعض الراحة بين الدروس.. لم أعرف أشياء كثيرة عنها سوي أنها مطلقة أما عن السبب, فقد أجابت باقتضاب: نصيب..
ثم علمت بعد ذلك أن مدة زواجها لم تدم أكثر من عامين.. كان موظفا بسيطا بالإضافة إلي عمله وكيلا لصاحبة الفيللا في إدارة بعض ممتلكاتها.. ألح في الزواج منها وكان أصلح المتقدمين.. طلبت مني أن أعلمها القراءة والكتابة فضحكت, المرة التالية ناولتني مظروفا به بضعة جنيهات ورجتني أن أقبلها ثمنا للدرس.. ضحكت أكثر وأعدت إليها المظروف وأنا أعدها بأنني سوف أعلمها قريبا.. علمت مني أني أعزب, وأظن أنها أخبرت سيدتها بذلك لأنها أقبلت علي ذات مرة بطبق مملوء بالمحشي وطبق آخر من الكشك وغلفتهما أمامي, ثم وضعتهما في كيس بلاستيك وقدمتهما إلي أمام السيدة.. فبدا علي الشعور بالإهانة لأن السيدة ابتلعت بسمتها ونهرت انشراح بشدة فاختفت من أمامي متعثرة في خطواتها, وعقب خروجها بقليل سمعت صوت أطباق تتكسر في المطبخ بينما سيدتها تعتذر لي عن جهلها وقلة ذوقها..
في يوم تال قدم لي المشروبات صبي,سألت السيدة عنها, فقالت: في المطبخ.. أخبرتها بأني لست زعلانا منها وأني ندمان وأشعر بأني كسرت بخاطرها وألححت عليها بأن تبلغها اعتذاري وتعيدها لتقوم بالخدمة كسابق عهدها.. سكتت السيدة وهي تتأملني لكن في المرة التي تلتها وجدت انشراح تقدم لي القهوة بوجه محايد وكانت هذه من المرات القليلة التي اختفت فيه البسمة من وجهها.. وظلت واقفة عن بعد بجوار الستارة المسدلة ترقبني حتي انتهيت من ارتشاف قهوتي.. تعمدت ألا تواجهها عيناي ولا أن أخاطبها.. أخذت الفنجان من أمامي وانسحبت متلكئة..
اقتربت مواعيد الامتحان وزاد عدد المدرسين الداخلين والخارجين.. وطالت استراحتي بداخل الفيللا منتظرا ولم أعترض, لأنهم زادوا لي قيمة الحصة عندما شكوت من انتظاري الطويل فقد كانت الحصص الأخري تزيد في زمنها علي حساب اللغة العربية التي ليست بنفس الأهمية بالنسبة للعلوم الأخري في رأيهم.. اقتربت مني انشراح أكثر وتقربت إليها كثيرا, وعندما شاهدتها مصادفة في الشارع تشتري بعض الاحتياجات مرتدية بنطلونا مثيرا وتي شيرت( أعتقد أنه من مخلفات أريج) كانت تبدو كفتيات الطبقة الراقية بشعرها المسترسل وجسدها الضئيل الفاتن, أخبرتني أنها مطلقة بعد زيجة استمرت عامين لكنها لم تخبرني السبب كالعادة, ثم عاتبتني لأنني رفضت أن آكل من صنعة يديها فاعتذرت بأني لم أعلم أنها صنعته من أجلي.. لم يكن صعبا علي أن أصطحبها إلي غرفتي الصغيرة فوق سطح أحد البيوت القديمة ببولاق.. عدت ببعض الكفتة والطرب فوجدتها قد قلبت الغرفة رأسا علي عقب وجعلتها شيئا مختلفا وجميلا.. كما مسحت أرضية الحمام البلدي ودعكته بالبوتاس فأصبح يغري حتي بالنوم عليه.. كانت قد أصرت أن تطبخ لي ورفضت بشدة فالبيت ليس به أية مواد تموينية ولست علي استعداد لأن أحضرها ولا أستخدمها مرة أخري.. استمعت إليها بشغف وهرموناتي تتدفق شوقا.. حكت لي عن طفولتها التي لا تتذكر منها الكثير في بورسعيد مع أب يعمل في الصيد, كان هو كل أسرتها بعد وفاة أمها أثناء ولادتها.. وكانت تساعده علي المركب الذي يقيمان فيه بعمل الشاي وشي السمك وتتبيله.. حتي اندلعت الحرب بغتة فاقتادها الأب إلي عدة مدن وقري متنقلين أكثر من مرة حتي وصلا إلي القاهرة.. ومال صاحب لأبيها كان قد تعرف إليه ورأف بحاله وهو يري طفلة في التاسعة من عمرها تنام كل ليلة خلف نصبة المقهي في شتاء القاهرة القارس. أرشده الصديق إلي السيدة الثرية التي عاملتها بطيبة وجعلتها مسئولة ما مع المربية عن أريج التي كانت في سنتها الأولي آنذاك..
عندما أبعدت يدي في أول الأمر بلطف.. وعندما ابتعدت ولزمت آخر موضع بالكنبة البلدي.. وعندما كنت أنتهز فرصة استرسالها في اجترار الذكريات وأكسب مساحات جديدة اقترابا منها.. وعندما كانت تحكي لي عن زوجها الطيب الحنون الذي اختارته لها السيدة وعاشت معه أحلي سنتين من عمرها.. والذي عندما تأخر حملها وذهبا أكثر من مرة لأكثر من طبيب ولأكثر من معمل تحليل واكتشف الزوج عقمه النهائي.. رفض الزوج أن يستمر الزواج وأقنع أمه التي كانت أكثر منه طيبة بذلك.. وكيف أنها بكت وصرخت وأقسمت له بأنها لا تريد أطفالا بل تريد قضاء بقية عمرها بين تراب قدميه.. لكنه أصر علي تطليقها ورغم أنها توسلت لأمه التي احتضنتها وربتت عليها بيد حانية.. إلا أن الزوج أصر وهو يقبلها علي رأسها علي أن يقول إنه يحبها جدا ولن يتحمل أي مشكلات مستقبلية بخصوص الأولاد وانه يدرك بتجربته بعد مشورة الأطباء انه لن ينجح في جعلها تنجب كما لن ينجح مهما فعل في جعلها تنسي غريزة الأمومة.. ثم طلقها بالثلاثة.. عادت إلي سيدتها كارهة للحياة وللناس ولمولدها الشؤم ولغريزة الأمومة.. ثم خفضت صوتها وأرخت جفنيها وهمست: لحد ماشفتك وكلمتك..
عادت هرموناتي مرة أخري للحياة بعد أن أخمدتها المأساة والرغي, فقلت المساحات بيننا واحتضنتها وقبلتها بقوة.. دفعتني برفق ثم بعصبية فاندهشت.. بقيت عاجزا عن الكلام فترة وأنا أرقبها تسحب الإيشارب وترتدي حذاءها بعجالة وتجذب حقيبتها الشمواه الفاخرة المتآكل وبرها من إحدي الجوانب.. كنت أسمع صدي صوت تعثرها بالباب الخشبي الذي يفصل السطح عن درج البيت وأسمع وقع أقدامها وهي تهرول هابطة الدرج.
بدأت أفتقدها عندما يحين درسي ولا ألمحها.. وبدأت ارتاب في النظرات التي توجهها إلي سيدة الفيللا وهل هي عادية أم ماكرة أم تضمر شرا؟.. حتي عندما تحامقت وسألت أريج عنها... نظرت إلي البنت المفعوصة نظرة طويلة ثم أهملتني واستمرت في تلاوة النص الشعري.. سألت نفسي كثيرا: أأعتذر عن تدريسي لأريج وأتخلي عن مكافأته المجزية؟ أأسأل عنها صاحبة الفيللا مباشرة وبلا مواربة وليكن ما يكون؟.. أو أن أتحمل الأمر بصمت وأسكت تماما؟.. وفعلا اخترت ذلك, حتي انتهت أريج من امتحانها وذهبت لأخذ مستحقاتي.. قابلتني سيدة الفيللا في صالونها الخاص وقدمت لي بعض الشيكولاته وهي تخبرني بابتسامة أن مصححي المدرسة قد بشروها بتفوق أريج, ثم أعطتني مستحقاتي مع نفحة مالية طيبة.. كنت علي شبه يقين بأنها لن تستعين بي مرة أخري لذا تجرأت وسألتها عن انشراح.. حدقت في برهة ثم تناولت قطعة الشيكولاته وقالت لي وهي تنزع ورقها وتقضم منها قضمة: الدكاترة مانعيني من الشيكولاته.. لكن واحدة مش هاتضر.
تمنيت لها السلامة وأنا أنظر إليها أستحثها علي الكلام... بعد أن كورت الورقة وأوصلتها لأقل حجم ممكن ثم ألقتها بإهمال في منفضة السجائر, قالت: تحت في المطبخ.. عايزها تنضف لك أودتك تاني. تأكدت من أن انشراح قد قالت لها كل شيء.. دخلت في صلب الموضوع طالبا الزواج من انشراح شارحا ظروفي الصعبة بالقاهرة وظروف أهلي في الريف ببنها.. طلبت مني أن أحضر أهلي ونتمم الزواج.. رجوتها ألا تذكر أمام أهلي أن انشراح كانت متزوجة قبلي.. أو أنها تعمل عندها.. ابتسمت باستخفاف, ثم قالت بحدة: بس مش هاتكتب في القسيمة إنها بكر.. قلت: طبعا إحنا هانكتب هنا الأول وبعدين أهلي يحضروا الفرح.. تزوجت انشراح وسط فرح بسيط علي السطح حضره زملائي المنتقون وأهلي وبعض الجيران, وأتت السيدة في نهاية الليلة ومنحت انشراح مبلغا كبيرا من المال.. في ليلة الدخلة اكتشفت أن انشراح بكر رشيد لم يفضها أحد.. كان جسدها جسد طفلة في السادسة عشرة ورائحته مثيرة.. وادركت مأساة زوجها السابق وهو عاجز أمام هذا الجسد الملتهب سنتين كاملتين, وحمدت الله أنه لم يفضها بيده بعنف العاجز بل تركها بطيبة في سلام... أشهر قليلة بعد الزواج لم ألمها علي احتفاظها بصورته في محفظتها الصغيرة.. كنت كثيرا ما أتأمل صورته وشبابه القوي وأتفحص حدقتيه لعلي أحرك حزنه الساكن في الأعماق..
كنت آنذاك أعمل عملا إضافيا كمصحح في جريدة مسائية وبدأت أنشر فيها بعض المقالات والأشعار, ثم توالي النشر في صحف ومجلات أخري وفي بلاد عربية بعيدة وقريبة. وصرت أشارك في مؤتمرات داخلية وخارجية فاستقلت من التدريس وتفرغت لمهنة لم تكن في حسباني وشهرة غير متوقعة في المحيط الثقافي, وصرت من نجوم التليفزيون والفضائيات كمحلل نقدي للمسرح والشعر.. تبدل بنا المكان والزمان وإن كنت لاأزال أذكر كيف كانت تعطرني وتعيد ضبط الكرافتة.. مازلت أذكر لمساتها لخصلة شعري وتحسسها لخلفية الشعر التي بحاجة لتهذيب.. الدعوات الطيبة غير مستقيمة اللغة التي كانت تنهال بها علي كلما خرجت من الشقة وتوصلني بها حتي دخولي في المصعد, والتي نالت بسببها التعنيف واللوم والزجر لكن لا فائدة.. محاولاتها الدائمة مناقشتي عما قلته بالتليفزيون وهي عاجزة عن فهمه أو إدراكه وقلة صبري معها.. مازلت أذكر كيف أجبرتها علي إجهاض طفلنا الأول بحجة أنني غير قادر علي الصرف عليه.. لم أعلمها الكتابة والقراءة ولم ألتفت لها وهي تسهر بجواري جالسة علي الأرض وأنا أكتب علي المنضدة العالية.. تهرع لإحضار الشاي والقهوة.. تشعل لي سيجارتي.. تقبل خلسة الصحف التي نشرت صوري.. تحتفظ في درج خاص بكل مسودة ألقيت بها.. إذا ما سألتها عن شيء.. أحضرته إلي.. أمد يدي إلي قذاراتي ومهملاتي أبحث عما فقد مني.. ثم آمرها بإلقاء هذه الزبالة في الصندوق.. وإذا ما لاحظت شرودي وزوغان عيني بحثا عن شيء.. عادت إلي بدرجها فوجدت المهملات زادت ولم تنقص شيئا ووجدت ما أبحث عنه.. إذا ما نمت صحوت عليها تقبل جسدي كله.. كم دفعتها كثيرا من فوق السرير إلي الأرض.. لم تغب عنها ابتسامتها أبدا, حتي بعد إجهاضها الأول كادت عيناها تقولان لي:- أنت ابني لا أحتاج لآخر!
غيرت حياتها وذائقتها السمعية.. صارت تحضر لي أشرطة حليم وفيروز وتسمعها معي.. تعلمت كتابة بعض الحروف عند جارتنا فبطشت بها.. لم أكن أتصور أن يعلم أحد في البناية الفاخرة بأن زوجتي جاهلة.. وصرت أستعد لهجرة المكان..
في ليلة صافية بعد ما أدركت أنني قسوت عليها كثيرا, لم أعتذر لها لكن سألتها عما تعلمته من حروف لدي الجارة.. ابتسمت ابتسامة لا توصف وهرعت لإحضار كشكولها الرخيص وقلمها الرصاص وانتحت بعيدا عني, ثم جاءت إلي ووقفت كالتلميذة الخائفة وكشكولها خلف جسدها تكبله بيدها.. اختطفت الكشكول ضجرا.. فوجدت الصفحة البيضاء منقوشة بأحرف غير متساوية المقاييس وبها جملة صغيرة واحدة' أنا أحبك' سألتها ساخرا: جارتنا علمتك المسخرة دي.
أجابت بنفس الخجل الذي واجهتني به وأنا أفضها لأول مرة: هي علمتني الحروف وازاي أقرا بس.
ناولتها الكشكول بإهمال.
ثم ماتت انشراح!
سيدة الفيللا قتلتها.. قالت لها ألا تخبرني بحملها الثاني حتي يكبر في بطنها, وأخبرني الطبيب: الإجهاض في الشهر الخامس خطر وجسدها لا يتحمل..
ضغطت علي يدي وقالت لي: متأسفة.. خليه يعمل العملية أنا مش خايفة.
هي التي قتلتها ولست أنا!
.. تزوجت وأنجبت... ولم تؤثر في دعوات سيدة الفيللا.. ونسيت انشراح كثيرا لكن كلما أعجزتني فكرة وأعيت خيالي.. عدت إلي حقيبتها الكبيرة التي كانت تخفي بها مسوداتي ومهملاتي.. لم أجرؤ علي التخلص من هذه الحقيبة بعد موتها.. أغلقتها واحتفظت بها وأقسمت بأني لن أفتحها أبدا.. حنثت بقسمي كثيرا ولم أصم ولم أتحلل من قسمي ولم أتخلص منها.. وأوصيت المحامي بأن يدفن الحقيبة معي في مقبرتي التي بها رفات انشراح لا في مقابر أسرة اللواء الذين اقترنت بهم.
وكنت مدرسا خاصا لأريج, ابنة سيدة ثرية أرستقراطية تقيم بالزمالك كانت في نهائي الثانوية العامة.. شقية عابثة لا مبالية وكانت تجهدني وتضنيني في تعليمها.. وكان الأجر كبيرا والحفاوة التي تستقبلني بها السيدة رغم تحفظها تخجلني.. كان لسان أريج معوجا بتأثير تعليمها الأجنبي لا تقبل ولا تتقبل ولا تعي دروس اللغة العربية ونصوصها الجاهلية, فما بالك بآيات القرآن الكريم التي أدرسها إياها ضمن النصوص المقررة.. وكثيرا ما كانت أريج تقاطعني وتخاطب أمها بالفرنسية ويتبادلان حوارا يبدو لي حادا ثم تطلب مني أمها بابتسامة تجاهد أن تبدو رقيقة أن أسمح لأريج بقضاء حاجة ما لبضع دقائق.. يختفيان فتدخل انشراح بشاي.. بقهوة.. كرواساه أو ساليزون ونتبادل بضع كلمات.. أسألها عما تفعله أريج بالداخل مع أمها.. فتبتسم ولا ترد.. أطلب منها الجلوس فترفض.. كانت تقترب من أوائل العشرينات وكنت أكبرها ببضع سنوات.. رغم إشراقها وبسمتها الدائمة كان هناك أسي عميق في حدقتيها.. واحترت في تفسيره..
كان يقابلني في الدخول والخروج مدرسون خارجون أو داخلون وكنت أكثرهم حضورا لهذه الفيللا بسبب لكنة أريج العربية المتردية.. شيئا فشيئا بدأت انشراح تعتاد علي وتتكلم معي خاصة في فترات انتظاري خروج مدرس ما أو بناء علي طلب أريج بعض الراحة بين الدروس.. لم أعرف أشياء كثيرة عنها سوي أنها مطلقة أما عن السبب, فقد أجابت باقتضاب: نصيب..
ثم علمت بعد ذلك أن مدة زواجها لم تدم أكثر من عامين.. كان موظفا بسيطا بالإضافة إلي عمله وكيلا لصاحبة الفيللا في إدارة بعض ممتلكاتها.. ألح في الزواج منها وكان أصلح المتقدمين.. طلبت مني أن أعلمها القراءة والكتابة فضحكت, المرة التالية ناولتني مظروفا به بضعة جنيهات ورجتني أن أقبلها ثمنا للدرس.. ضحكت أكثر وأعدت إليها المظروف وأنا أعدها بأنني سوف أعلمها قريبا.. علمت مني أني أعزب, وأظن أنها أخبرت سيدتها بذلك لأنها أقبلت علي ذات مرة بطبق مملوء بالمحشي وطبق آخر من الكشك وغلفتهما أمامي, ثم وضعتهما في كيس بلاستيك وقدمتهما إلي أمام السيدة.. فبدا علي الشعور بالإهانة لأن السيدة ابتلعت بسمتها ونهرت انشراح بشدة فاختفت من أمامي متعثرة في خطواتها, وعقب خروجها بقليل سمعت صوت أطباق تتكسر في المطبخ بينما سيدتها تعتذر لي عن جهلها وقلة ذوقها..
في يوم تال قدم لي المشروبات صبي,سألت السيدة عنها, فقالت: في المطبخ.. أخبرتها بأني لست زعلانا منها وأني ندمان وأشعر بأني كسرت بخاطرها وألححت عليها بأن تبلغها اعتذاري وتعيدها لتقوم بالخدمة كسابق عهدها.. سكتت السيدة وهي تتأملني لكن في المرة التي تلتها وجدت انشراح تقدم لي القهوة بوجه محايد وكانت هذه من المرات القليلة التي اختفت فيه البسمة من وجهها.. وظلت واقفة عن بعد بجوار الستارة المسدلة ترقبني حتي انتهيت من ارتشاف قهوتي.. تعمدت ألا تواجهها عيناي ولا أن أخاطبها.. أخذت الفنجان من أمامي وانسحبت متلكئة..
اقتربت مواعيد الامتحان وزاد عدد المدرسين الداخلين والخارجين.. وطالت استراحتي بداخل الفيللا منتظرا ولم أعترض, لأنهم زادوا لي قيمة الحصة عندما شكوت من انتظاري الطويل فقد كانت الحصص الأخري تزيد في زمنها علي حساب اللغة العربية التي ليست بنفس الأهمية بالنسبة للعلوم الأخري في رأيهم.. اقتربت مني انشراح أكثر وتقربت إليها كثيرا, وعندما شاهدتها مصادفة في الشارع تشتري بعض الاحتياجات مرتدية بنطلونا مثيرا وتي شيرت( أعتقد أنه من مخلفات أريج) كانت تبدو كفتيات الطبقة الراقية بشعرها المسترسل وجسدها الضئيل الفاتن, أخبرتني أنها مطلقة بعد زيجة استمرت عامين لكنها لم تخبرني السبب كالعادة, ثم عاتبتني لأنني رفضت أن آكل من صنعة يديها فاعتذرت بأني لم أعلم أنها صنعته من أجلي.. لم يكن صعبا علي أن أصطحبها إلي غرفتي الصغيرة فوق سطح أحد البيوت القديمة ببولاق.. عدت ببعض الكفتة والطرب فوجدتها قد قلبت الغرفة رأسا علي عقب وجعلتها شيئا مختلفا وجميلا.. كما مسحت أرضية الحمام البلدي ودعكته بالبوتاس فأصبح يغري حتي بالنوم عليه.. كانت قد أصرت أن تطبخ لي ورفضت بشدة فالبيت ليس به أية مواد تموينية ولست علي استعداد لأن أحضرها ولا أستخدمها مرة أخري.. استمعت إليها بشغف وهرموناتي تتدفق شوقا.. حكت لي عن طفولتها التي لا تتذكر منها الكثير في بورسعيد مع أب يعمل في الصيد, كان هو كل أسرتها بعد وفاة أمها أثناء ولادتها.. وكانت تساعده علي المركب الذي يقيمان فيه بعمل الشاي وشي السمك وتتبيله.. حتي اندلعت الحرب بغتة فاقتادها الأب إلي عدة مدن وقري متنقلين أكثر من مرة حتي وصلا إلي القاهرة.. ومال صاحب لأبيها كان قد تعرف إليه ورأف بحاله وهو يري طفلة في التاسعة من عمرها تنام كل ليلة خلف نصبة المقهي في شتاء القاهرة القارس. أرشده الصديق إلي السيدة الثرية التي عاملتها بطيبة وجعلتها مسئولة ما مع المربية عن أريج التي كانت في سنتها الأولي آنذاك..
عندما أبعدت يدي في أول الأمر بلطف.. وعندما ابتعدت ولزمت آخر موضع بالكنبة البلدي.. وعندما كنت أنتهز فرصة استرسالها في اجترار الذكريات وأكسب مساحات جديدة اقترابا منها.. وعندما كانت تحكي لي عن زوجها الطيب الحنون الذي اختارته لها السيدة وعاشت معه أحلي سنتين من عمرها.. والذي عندما تأخر حملها وذهبا أكثر من مرة لأكثر من طبيب ولأكثر من معمل تحليل واكتشف الزوج عقمه النهائي.. رفض الزوج أن يستمر الزواج وأقنع أمه التي كانت أكثر منه طيبة بذلك.. وكيف أنها بكت وصرخت وأقسمت له بأنها لا تريد أطفالا بل تريد قضاء بقية عمرها بين تراب قدميه.. لكنه أصر علي تطليقها ورغم أنها توسلت لأمه التي احتضنتها وربتت عليها بيد حانية.. إلا أن الزوج أصر وهو يقبلها علي رأسها علي أن يقول إنه يحبها جدا ولن يتحمل أي مشكلات مستقبلية بخصوص الأولاد وانه يدرك بتجربته بعد مشورة الأطباء انه لن ينجح في جعلها تنجب كما لن ينجح مهما فعل في جعلها تنسي غريزة الأمومة.. ثم طلقها بالثلاثة.. عادت إلي سيدتها كارهة للحياة وللناس ولمولدها الشؤم ولغريزة الأمومة.. ثم خفضت صوتها وأرخت جفنيها وهمست: لحد ماشفتك وكلمتك..
عادت هرموناتي مرة أخري للحياة بعد أن أخمدتها المأساة والرغي, فقلت المساحات بيننا واحتضنتها وقبلتها بقوة.. دفعتني برفق ثم بعصبية فاندهشت.. بقيت عاجزا عن الكلام فترة وأنا أرقبها تسحب الإيشارب وترتدي حذاءها بعجالة وتجذب حقيبتها الشمواه الفاخرة المتآكل وبرها من إحدي الجوانب.. كنت أسمع صدي صوت تعثرها بالباب الخشبي الذي يفصل السطح عن درج البيت وأسمع وقع أقدامها وهي تهرول هابطة الدرج.
بدأت أفتقدها عندما يحين درسي ولا ألمحها.. وبدأت ارتاب في النظرات التي توجهها إلي سيدة الفيللا وهل هي عادية أم ماكرة أم تضمر شرا؟.. حتي عندما تحامقت وسألت أريج عنها... نظرت إلي البنت المفعوصة نظرة طويلة ثم أهملتني واستمرت في تلاوة النص الشعري.. سألت نفسي كثيرا: أأعتذر عن تدريسي لأريج وأتخلي عن مكافأته المجزية؟ أأسأل عنها صاحبة الفيللا مباشرة وبلا مواربة وليكن ما يكون؟.. أو أن أتحمل الأمر بصمت وأسكت تماما؟.. وفعلا اخترت ذلك, حتي انتهت أريج من امتحانها وذهبت لأخذ مستحقاتي.. قابلتني سيدة الفيللا في صالونها الخاص وقدمت لي بعض الشيكولاته وهي تخبرني بابتسامة أن مصححي المدرسة قد بشروها بتفوق أريج, ثم أعطتني مستحقاتي مع نفحة مالية طيبة.. كنت علي شبه يقين بأنها لن تستعين بي مرة أخري لذا تجرأت وسألتها عن انشراح.. حدقت في برهة ثم تناولت قطعة الشيكولاته وقالت لي وهي تنزع ورقها وتقضم منها قضمة: الدكاترة مانعيني من الشيكولاته.. لكن واحدة مش هاتضر.
تمنيت لها السلامة وأنا أنظر إليها أستحثها علي الكلام... بعد أن كورت الورقة وأوصلتها لأقل حجم ممكن ثم ألقتها بإهمال في منفضة السجائر, قالت: تحت في المطبخ.. عايزها تنضف لك أودتك تاني. تأكدت من أن انشراح قد قالت لها كل شيء.. دخلت في صلب الموضوع طالبا الزواج من انشراح شارحا ظروفي الصعبة بالقاهرة وظروف أهلي في الريف ببنها.. طلبت مني أن أحضر أهلي ونتمم الزواج.. رجوتها ألا تذكر أمام أهلي أن انشراح كانت متزوجة قبلي.. أو أنها تعمل عندها.. ابتسمت باستخفاف, ثم قالت بحدة: بس مش هاتكتب في القسيمة إنها بكر.. قلت: طبعا إحنا هانكتب هنا الأول وبعدين أهلي يحضروا الفرح.. تزوجت انشراح وسط فرح بسيط علي السطح حضره زملائي المنتقون وأهلي وبعض الجيران, وأتت السيدة في نهاية الليلة ومنحت انشراح مبلغا كبيرا من المال.. في ليلة الدخلة اكتشفت أن انشراح بكر رشيد لم يفضها أحد.. كان جسدها جسد طفلة في السادسة عشرة ورائحته مثيرة.. وادركت مأساة زوجها السابق وهو عاجز أمام هذا الجسد الملتهب سنتين كاملتين, وحمدت الله أنه لم يفضها بيده بعنف العاجز بل تركها بطيبة في سلام... أشهر قليلة بعد الزواج لم ألمها علي احتفاظها بصورته في محفظتها الصغيرة.. كنت كثيرا ما أتأمل صورته وشبابه القوي وأتفحص حدقتيه لعلي أحرك حزنه الساكن في الأعماق..
كنت آنذاك أعمل عملا إضافيا كمصحح في جريدة مسائية وبدأت أنشر فيها بعض المقالات والأشعار, ثم توالي النشر في صحف ومجلات أخري وفي بلاد عربية بعيدة وقريبة. وصرت أشارك في مؤتمرات داخلية وخارجية فاستقلت من التدريس وتفرغت لمهنة لم تكن في حسباني وشهرة غير متوقعة في المحيط الثقافي, وصرت من نجوم التليفزيون والفضائيات كمحلل نقدي للمسرح والشعر.. تبدل بنا المكان والزمان وإن كنت لاأزال أذكر كيف كانت تعطرني وتعيد ضبط الكرافتة.. مازلت أذكر لمساتها لخصلة شعري وتحسسها لخلفية الشعر التي بحاجة لتهذيب.. الدعوات الطيبة غير مستقيمة اللغة التي كانت تنهال بها علي كلما خرجت من الشقة وتوصلني بها حتي دخولي في المصعد, والتي نالت بسببها التعنيف واللوم والزجر لكن لا فائدة.. محاولاتها الدائمة مناقشتي عما قلته بالتليفزيون وهي عاجزة عن فهمه أو إدراكه وقلة صبري معها.. مازلت أذكر كيف أجبرتها علي إجهاض طفلنا الأول بحجة أنني غير قادر علي الصرف عليه.. لم أعلمها الكتابة والقراءة ولم ألتفت لها وهي تسهر بجواري جالسة علي الأرض وأنا أكتب علي المنضدة العالية.. تهرع لإحضار الشاي والقهوة.. تشعل لي سيجارتي.. تقبل خلسة الصحف التي نشرت صوري.. تحتفظ في درج خاص بكل مسودة ألقيت بها.. إذا ما سألتها عن شيء.. أحضرته إلي.. أمد يدي إلي قذاراتي ومهملاتي أبحث عما فقد مني.. ثم آمرها بإلقاء هذه الزبالة في الصندوق.. وإذا ما لاحظت شرودي وزوغان عيني بحثا عن شيء.. عادت إلي بدرجها فوجدت المهملات زادت ولم تنقص شيئا ووجدت ما أبحث عنه.. إذا ما نمت صحوت عليها تقبل جسدي كله.. كم دفعتها كثيرا من فوق السرير إلي الأرض.. لم تغب عنها ابتسامتها أبدا, حتي بعد إجهاضها الأول كادت عيناها تقولان لي:- أنت ابني لا أحتاج لآخر!
غيرت حياتها وذائقتها السمعية.. صارت تحضر لي أشرطة حليم وفيروز وتسمعها معي.. تعلمت كتابة بعض الحروف عند جارتنا فبطشت بها.. لم أكن أتصور أن يعلم أحد في البناية الفاخرة بأن زوجتي جاهلة.. وصرت أستعد لهجرة المكان..
في ليلة صافية بعد ما أدركت أنني قسوت عليها كثيرا, لم أعتذر لها لكن سألتها عما تعلمته من حروف لدي الجارة.. ابتسمت ابتسامة لا توصف وهرعت لإحضار كشكولها الرخيص وقلمها الرصاص وانتحت بعيدا عني, ثم جاءت إلي ووقفت كالتلميذة الخائفة وكشكولها خلف جسدها تكبله بيدها.. اختطفت الكشكول ضجرا.. فوجدت الصفحة البيضاء منقوشة بأحرف غير متساوية المقاييس وبها جملة صغيرة واحدة' أنا أحبك' سألتها ساخرا: جارتنا علمتك المسخرة دي.
أجابت بنفس الخجل الذي واجهتني به وأنا أفضها لأول مرة: هي علمتني الحروف وازاي أقرا بس.
ناولتها الكشكول بإهمال.
ثم ماتت انشراح!
سيدة الفيللا قتلتها.. قالت لها ألا تخبرني بحملها الثاني حتي يكبر في بطنها, وأخبرني الطبيب: الإجهاض في الشهر الخامس خطر وجسدها لا يتحمل..
ضغطت علي يدي وقالت لي: متأسفة.. خليه يعمل العملية أنا مش خايفة.
هي التي قتلتها ولست أنا!
.. تزوجت وأنجبت... ولم تؤثر في دعوات سيدة الفيللا.. ونسيت انشراح كثيرا لكن كلما أعجزتني فكرة وأعيت خيالي.. عدت إلي حقيبتها الكبيرة التي كانت تخفي بها مسوداتي ومهملاتي.. لم أجرؤ علي التخلص من هذه الحقيبة بعد موتها.. أغلقتها واحتفظت بها وأقسمت بأني لن أفتحها أبدا.. حنثت بقسمي كثيرا ولم أصم ولم أتحلل من قسمي ولم أتخلص منها.. وأوصيت المحامي بأن يدفن الحقيبة معي في مقبرتي التي بها رفات انشراح لا في مقابر أسرة اللواء الذين اقترنت بهم.
زهرة الفل- المديرة التنفيذية
- عدد المساهمات : 1038
نقاط : 7114
تاريخ التسجيل : 26/07/2010
رد: انشراح ,,قصة جميلة ,,
الله قصة جميييييييييييييلة قوى
ربنا يباركلك يازهرة
وحشانى جدا ً يا زهرة
ربنا يباركلك يازهرة
وحشانى جدا ً يا زهرة
سونسن- المشرفة العامة
- عدد المساهمات : 1122
نقاط : 7068
تاريخ التسجيل : 28/07/2010
رد: انشراح ,,قصة جميلة ,,
تسلم ايدك يازهرة صباح الفل ياقمر
الاميرة- عضوة ذهبية
- عدد المساهمات : 747
نقاط : 5978
تاريخ التسجيل : 28/07/2010
رد: انشراح ,,قصة جميلة ,,
تسلمى يازهرة الفل الجميلة الرائعة بمواضيعك وقصصك الحلوة بارك الله فيكى
روبي- عضوة ذهبية
- عدد المساهمات : 346
نقاط : 5608
تاريخ التسجيل : 18/08/2010
مواضيع مماثلة
» صور أحواض سمك جميلة
» ادعية جميلة لكل مكروب
» مطابخ صغيرة لكن جميلة
» كلمة إهداء لكل هانم جميلة
» بينها وبينه " هل تراني جميلة ؟"
» ادعية جميلة لكل مكروب
» مطابخ صغيرة لكن جميلة
» كلمة إهداء لكل هانم جميلة
» بينها وبينه " هل تراني جميلة ؟"
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى